أ. فتحي الغريب

جمال اللغة، وجمال الإنسان

أ. فتحي الغريب

إنني أتذكر بكثيرٍ، من المحبة، والتقدير أستاذي "فتحي الغريب"، وهو يشرح لنا، في المرحلة الابتدائية"، ما معنى "التعبير"، ودروس النحو العربي المتعلقة، بتركيب "الجملة الاسمية"، وغيرها...

كان الأستاذ "فتحي"، وما زال يتمتع بأسلوبٍ سهل، ومحبب، وهندامٍ حسن، وأناقةٍ لافتة، وروحٍ مرحة، ونشاطٍ وافر، وابتسامةٍ حلوة، ورائقة لا تكدرها الحياة!

فانطبع تلقائيًّا في أذهاننا أن النحو يشبهه، وأنه يتمتع بالسهولة المحببة نفسها، وأن النحو أنيقٌ مثله، وأن أناقته لافتة، وأن ابتسامته حلوة، لا صخب فيها، وأنه قد يعتِب علينا مرة جرَّاء "أُعتوبة" عابرة..

وأنه قليلًا ما يغضب، وأن غضبه محتمل، وأنه قد يبدو لنا جادًّا، ولكنه يأبى أن يكون عابسًا، وأن للنحو روحًا، ونشاطًا وافرًا، وأننا حين نعبّر عن أنفسنا باستعمال الكلمات التي ننطق بها، يكون النحو هو من ينسجها بخيوطه، ويحركها أمامنا من وراء ستار، ليصنع من خلالها المعنى؛ كونه هو الكلمات والأدوات، وهو السبك الجيد المتماسك الذي يربط بينها في الوقت ذاته..

= النحو يتشكل، مع مشاعرنا، وأفكارنا، في سياق واضح، نفهمه؛ لأجل هذا نسمي النحو أحيانًا "علم الإعراب"، ولأجل هذا أيضًا صار النحو في "علم المعاني" هو قلب الحدث[1]، النحو لا يكتفي بأن يُعرِب عنا، ثم ما يلبث أن يتحاتَّ، عن أغصان الكلمات، مثل أوراق الشجر، أو ينزوي بعيدًا إلى أن نستدعيه مرة ثانية في قاعة الدرس، بل هو أكثر لطافة، وذكاء، وحدسًا، وقربًا، وخطرًا مما نتصور.

النحو نسيج العبارات والجمل، التي نغزلها بعقولنا مثل خيوط الحرير، إنه طاقة الكلمات التي لا تتبدد، طالما كانت الكلمات..

هو سبب الوجود في كل فكرة، يهبها الحياة، ويمنحها القدرة على المقاومة، ولكن من دون أن يطلّ علينا في صورة عنيفة، أو مرهقة.. النحو برهافة تامة، وحذقٍ نافع، وعُمق حقيقي، وبساطة بالغة يشكّل بين الآخرين وبيننا تلك العلاقة الإنسانية المليحة والنابهة!  

علمنا الأستاذ فتحي أن ننظر إلى اللغة باعتبارها وعاء للفكر، ووليست مجرد وسيلة روتينية مفرغة من الوعي، علمنا كذلك ألا ننظر إلى النحو على أنه مجرد قواعد، أو قوانين صارمة، حتى وإن كان من بعض الوجوه كذلك، ولا بأس عليه إن اتّسم بهذا، بل كنا ننظر له دومًا بذات النظرة التي نراه هو نفسه بها، ونرقبه وهو واقف أمامنا يحكي، وقد فتح لنا بابًا من غرائب اللغة وجمالها المدهش، بوصفه إنسانًا رائعًا، والنحو إنسان!


«لم يكن هذا المُعلم ينقل معرفة، بل كان يهدي ما كان يعرفه. لم يكن أستاذًا بقدر ما كان تروبادورًا – كأحد الشعراء الجوالين الذين كانوا يمرون بالقرى، يتغنّون بمآثر العظماء- لقد كان يجمع "قطيعه الصغير" عند البدايات الشفوية للحكاية، وكان صوته يتوجه إلى أتباعه على طريق الكتب، وهو طريق حج كبير لا نهاية له... إنه طريق الإنسان نحو الإنسان» [2].


إنه الأستاذ فتحي الغريب، أحد أجمل الأسخاص الذين عرفتهم، وأكثرهم تأثيرًا بأدبه وخلقه، ولعل هذه الكلمات العابرة أن توفيه بعض حقه، يكفي أن أقول: إنني حين أراه، أو ألتقي به، أرى إنسانًا سمحًا رائعًا، كالبستاني الذي لا يزرع الورد، في الحقل، ولكنه يزرع المحبة، والتسامح في النفوس، ويجعل أرواح من حوله تزهر![3]


________________________________

[1] مصطفى ناصف، "النقد العربي نحو نظرية ثانية"، ص207.

[2] متعة القراءة، ترجمة: يوسف الحمادة (بيروت: دار الساقي، 2015)، ص38.

[3] محمد علي مصطفى، ضع رجلاك في الطين، ط1(الدوحة: دار نشر جامعة قطر، 2023) ص 133.